الثالثة عشر: قبل عشرين سنة هرعت ألوف من شباب المسلمين إلى أفغانستان بحسن نية وسلامة فطرة، يدفعهم الشوق للجنة والاستجابة لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في نصرة إخوانهم المظلومين، وكانت حكوماتهم ما بين محرض على ذلك وراضٍ عنه.
وبعد سنوات أصبحت أخطر قضية أمنية لدى كثير من الدول العربية هي قضية (العائدون من أفغانستان)، وأصبح مجرد وطء قدم الشاب لهذه الأرض كافياً لتصنيفه مع المجرمين المطلوبين، الذين تتنادى الأجهزة العربية الأمنية وتهرع في كل مكان إذا قال أحدهم هاهنا "أفغاني"!! فتشكل الشبكات السرية التعاونية للقبض عليه ثم تشكل المحاكم العسكرية الجائرة لتحاكمه!!
فكيف حدث هذا؟
قبل الحادث الأخير تساءل كثيرون - منهم الكاتب المعروف فهمي هويدي عن سر التحول الهائل عن التأييد المطلق للقضية الأفغانية إلى النفور الشديد والتجاهل العجيب وقال: ''هذا التحول يحتاج إلى رصد ودراسة للتعرف على تلك المخططات الجهنمية التي تلاعبت بمدارك الناس وعقولهم، ونجحت في جذبهم إلى أفغانستان تارة، ثم حققت نجاحاً أكبر في تنفير الناس من أفغانستان؛ حتى أصبحت هذه الكلمة ترتبط بكل ما هو مفزع وشرير، وكيف أننا استجبنا للموقفين المتناقضين -سياسياً وإعلامياً- فرضينا حين رضيت واشنطن وسخطنا حين سخطت''.
وبعد الحادث أجمع كل العقلاء أو المتعقلين في العالم على أن الحل ليس تجريد حملة عسكرية شعواء لا أمد لها ولا حدود ولكن بدراسة الأسباب ومعالجتها، وعاد السؤال ومعه أسئلة أخرى.
فهل الألوف المؤلفة الذين هرعوا إلى بلاد الأفغان قبل عشرين سنة هم مجموعات من الأشرار الحاقدين المعادين للقيم والحضارة، أو من اللصوص المارقين الساعين لهدم الرفاهية والاستقرار في بلادهم والعالم، كما يصورهم الإعلام الغربي وأذياله عندنا؟
أم أن أعداء الحق والعدل والسلام وكرامة الإنسان هم الذين اضطروا بعض هؤلاء ليفعلوا ما يرونه جهاداً وقربة، وإن سماه الآخرون إرهاباً وهمجية؟!
وكيف تسلل الغلو وانتهاج العنف إلى بعضهم، وحَوَّله إلى بلده ومجتمعه أحياناً؟
وما قصة هذا المصطلح ((الإرهاب)) والاستخدام المراوغ لـه؟
إن الإجابة على هذه التساؤلات لا بد أن تعيدنا إلى تاريخ الصراع بين الإيمان والحق والكرامة وبين الكفر والباطل والإذلال في البلد العربي الذي اقتدت به الدول الأخرى ولا تـزال في هذا المضمار مصر!!
  1. حرب الدعاية الناصرية على الدعوة الإسلامية في مصر

    كان للدعاية الناصرية قصب السبق في إعلان الحرب على الدعوة الإسلامية، وإلصاق التهم بالخيانة والاغتيال والتخريب بالدعاة , ولا نزال نذكر المذكرة الخطيرة التي أعدتها الأجهزة المعنية بالقضاء على الإسلام في مصر، ومنذ ذلك الحين حتى اليوم والدعوة في هذا البلد المعروف بالتسامح طوال التاريخ تلاقي من المحن وصنوف الأذى الشيء الكثير، دون أن ينجح ذلك في استئصال التدين من شعب متدين بفطرته.
    وأول عملية منظمة - وظَّفت ما سمي فيما بعد (الإرهاب) لتشويه المتدينين - كانت ضد التنظيم الخاص للإخوان الذي اتهمته الناصرية بالعمالة للصهيونية والاستعمار، ومحاولة اغتيال جمال عبد الناصر تلك المسرحية التي لم يصدقها أحد, ولكن أودع العلماء والدعاة في السجون بسببها.
    ثم حين وضعت قائمة التهم - لمحاكمة سيد قطب رحمه الله ومن معه - كان على رأسها ((محاولة اغتيال سفيري أمريكا وبريطانيا في مصر))!! وكأنما أنشأت أمريكا وبريطانيا التنظيم وأمدته بالمال والسلاح - حسب الزعم الدائم للدعاية الناصرية - لكي يقتل سفيريها!!
    وانهزمت الناصرية في كل ميدان، واتضحت الحقائق. وخفتت هذه التهمة أو حُفِظت حتى قُتِل السادات. والواضح أن الذين قتلوه أياً كانوا لم يخرجوا عن الإجماع العربي على رفض زيارته للدولة الصهيونية الذي قرره مؤتمر بغداد، ولم يزيدوا على أن ترجموا عملياً، ما قرره الزعماء نظرياً، وحضوا عليه الشعب المصري من خلال ثلاث إذاعات من ثلاث عواصم غير الوسائل الأخرى، وهو أنه خان الأمة في أقدس قضاياها وأن الواجب على الشعب المصري التخلص منه!!
    وكان السادات قد فتح الباب لجمعيات دعوية مختلفة في الجامعات المصرية، لا تديناً ولكن لكي يقاوم الشيوعيين والناصريين، وكانت هذه الجماعات في أغلبها ارتجالية مقتصرة في دعوتها على بعض أمور الإيمان الظاهر غالباً، إلا أن هناك خلايا محدودة من خريجي السجون الناصرية -الذين ذاقوا فيها من صنوف التعذيب ما لا يتحمله البشر- ذهب بهم الغلو إلى تكفير غيرهم، ومن ذلك تكفير الجماعات الإسلامية نفسها.
    وقد اتُّهِموا بقتل الشيخ الذهبي رحمه الله وهي تهمة لم يصدقها كثير من الناس حتى أولياء الدم، وكانت أصابع الاتهام تشير إلى أجهزة الأمن التي أرادت وضع حد لهذه الجماعات بالتخلص من الشيخ ومنها معاً، وسرعان ما أطلقت حملة رهيبة من الاتهام بالهجرة والتكفير شملت كل ذي لحية وجلباب وكل ذات حجاب، وملأ السادات السجون حيث تلاقحت الأفكار، وحلَّت الخلايا العنقودية - كما وصفها هيكل - محل الجمعيات الارتجالية، ثم كان قتله إيذاناً بدخول مرحلة جديدة من الاضطهاد، وهكذا أفسح المجال لنشوء أو توسع جماعات جديدة تنتهج المقاومة المسلحة للتغيير ومنها "الجهاد" و"الجماعة الإسلامية".
  2. موقف الحكومات العربية من قيام الجهاد الأفغاني

    وعاصر هذه المرحلة قيام الجهاد الأفغاني الذي اجتمع لـه من أسباب جذب المتطوعين ما لم يجتمع لغيره، وكان ذلك فرصة للطرفين : الحكومة -التي تريد مسايرة رغبة أمريكا في محاربة السوفييت وفي الوقت نفسه تريد التخلص من هؤلاء، ومن المتدينين عموماً بقذفهم في فوهة المدافع الروسية- والشباب المتدين الذي وجدها فرصة للهروب من وطأة السجن والملاحقة والعذاب النفسي من المجتمع والأهل وإحياء فريضة الجهاد.
    وفي أفغانستان التقى المتطوعون القادمون - من كل مكان حتى من مصر نفسها - بلا منهج ولا تنظيم بهؤلاء الذين يحملون منهجاً في التغيير وفكراً تنظيمياً ومعاناة طويلة.
    وهكذا تأثر بعض الشباب بهم على اختلاف فيما بينهم وتفاوت في الغلو أو الاقتناع باستخدام العنف، وظلت مصر مصدر الوقود لهذا الغلو والتفرق، فقد كانت شناعة التهم والمجازفة في الاتهام والتعميم، وهي من الفنون التي يجيدها الإعلام المصري وقد ذاقها كثير من البلاد العربية، ثم كانت الحملة الشرسة التي بلغ سجناؤها 40 ألفاً، بالإضافة إلى التطبيع مع اليهود، ونشر الفاحشة والرذيلة، ونبذ شريعة الله، ومنع قيام أي تجمع على أساس الدين أسباباً لإعطاء هذه الجماعات شرعية، وإيجاد نسبة من التعاطف معها، ليس فقط بين المجتمع؛ بل داخل الأجهزة الأمنية نفسها.
    وهكذا دخلت مصر في دوامة من العنف الاجتماعي بسبب إرهاب الدولة، والتشبث بالحل الأمني أو الحسم - كما سماه جلادوها - فقد بلغ هذا الإرهاب في انتهاك الحرمات واقتراف الفظائع حداً جعل أكثر الناس رقة ولطفاً يضمر الانتقام أو يوالي أهله، الأمر الذي أحرج أصدقاء الحكومة المصرية وعلى رأسهم أمريكا نفسها، ولاسيما حين تتابعت تقارير الخارجية الأمريكية، ومنظمات حقوق الإنسان وتواترت عن صنوف التعذيب وتعسف المحاكمات. حتى أن بعض التقارير الأمريكية أثارت قضية التعذيب باستخدام فيروسات الإيدز.
    وهكذا بلغ الشحن النفسي غايته داخلياً وخارجياً، دون أن تتراجع الحكومة المصرية عن مسلسل الحسم وحلقاته، من القتل والتشريد والسجن بالظن أو لمجرد اللحية وغطاء الشعر للفتيات، ومضت قدماً في تحريض الدول الأخرى على الإسلاميين، ونجحت مساعيها من خلال تبني مؤتمرات وزراء الداخلية العرب لذلك، وسرعان ما سابقها النظام التونسي في هذا المجال، ناهيك عن النظام البعثي في سورية الذي كان قد دمر أهم مدينتين لأهل السنة حماه في سورية وطرابلس في لبنان وسجن وشرد عشرات الألوف!! بحيث تجاوزت مأساتهم مأساة الفلسطينيين!! وقل عن دول أخرى مثل ذلك.
    وهكذا كان الإنجاز الوحدوي الوحيد للأمة العربية! وأصبح هدف الذين يزعمون أنهم صنعوا العفريت لمواجهة السوفييت أن ينصبوا له المصائد أينما مر حتى لا يبقى له من أثر.
    وقد صاحب توقف الجهاد في أفغانستان اشتداد الوطأة في البلاد العربية على كل من ذهب إلى أفغانستان، واستطاعت الحكومات العربية إقناع الغرب بعد جهد جهيد لمسايرتها في المواجهة والحل الأمني. وهكذا لم يجد كثير من الشباب الأبرياء فرصة للحياة المستقرة لا في الدول العربية ولا في الغرب، فأخذوا يبحثون عن مكان يجاهدون فيه ليهربوا إليه، وانضم الذين بقوا في أفغانستان إلى صفوف حركة طالبان.
    ومن عاد منهم لبلاده قبل اشتداد الوطأة أو استطاع التفلت من التهمة، أو خرج من السجن وجد الطريق مغلقة في وجهه، فالدعوة محصورة محاربة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مفقود أو ضعيف، والأمة غارقة في الشهوات الرخيصة واللهو والعبث، وباختصار وجد كل ما يصادم القيم الجهادية التي يؤمن بها، ولم يجد المحاضن الدعوية التي تهذب وتربي، أو وجدها لكن طبيعته لم تقبلها، وهذه قضية مهمة بالنسبة للدعوة والدعاة، فهم أولى الجهات بأن يعرفوا تقصيرهم ويعترفوا بمسئوليتهم.
  3. التغيرات التي أحدثتها انتفاضة الأقصى

    وفي ظروف القلق والمعاناة والحيرة اشتعلت الانتفاضة المباركة في الأرض المقدسة، ودهش العالم كله للانحياز الأمريكي الصارخ لليهود، واستجمعت ذاكرة هؤلاء الشباب كل الأعداء الذين نكلوا بالمسلمين، وارتكبوا أبشع الجرائم في التاريخ سواءً في البوسنة أو الفلبين أو الصومال أو جنوب السودان أو تيمور أو في الجمهوريات المستقلة، وإذا بهم يتشخصون في شخص واحد هو "أمريكا" وما لها من توابع، أي أن الانتفاضة الفلسطينية هي التي حددت ملامح هذا العدو الأخطبوطي بوضوح.
    ولأول مرة تطابقت آراء المجاهدين في كل مكان مع آراء الحكومات العربية كلها بأن أمريكا غير عادلة، بل لا تحب العدل ولا تعرفه، ووصل العداء لـأمريكا ذروته في الصيف الماضي حين اتخذت الحكومات العربية مواقف واضحة الدلالة على الإحباط واليأس من اعتدال السياسة الأمريكية، فبعضهم حمّل أمريكا كامل المسئولية عن الإرهاب الصهيوني، وبعضهم حذرها جداً من عواقبه؟ فلم يعد في إمكان بشر ولو قُدَّ من حجر أن يسكت على طائرات ف16 والأباتشي وهي تلاحق سكان المخيمات الفقيرة المعزولة وتقتل النساء والشيوخ، ثم يأتي الموقف السياسي في مجلس الأمن فيضفي العدالة المطلقة على الإرهاب الصهيوني ويتهم المستضعفين بالإرهاب!!
    إن أشد الناس تحالفاً مع أمريكا في أوروبا وغيرها استهجنوا ذلك وانضموا إلى موقف الشعوب الإسلامية التي سرى فيها الشعور بضرورة إيقاف هذا العدوان والانتقام للمظلومين سريان النار في الهشيم، فلم تقتصر على المتدينين، بل وصلت إلى محترفي اللهو والتمثيل.
    وتجاهلت أمريكا كل هذا مع تكرار التحذير من عاقبته حتى أن مصر وجهت لها تحذيراً شديد اللهجة قبل الحادث بأيام فقط. أما العلاقات السعودية الأمريكية فقد وصلت إلى أسوأ مرحلة في تاريخها.
    وفي ذروة ذلك الغضب والغليان وقع الحادث فابتهج لـه المسلمون في كل مكان، لا شماتة ولا تعاطفاً مع الفاعل - الذي لم تظهر أي إشارة إلى هويته بعد - بل تنفيساً عن ذلك القهر وذلك الإحباط، وأملاً في أن يردع الأمريكيون حكومتهم الغاشمة بعد أن ذاقوا يوماً واحداً مما يذوقه المسلمون كل يوم، وفي كل مكان - لاسيما في فلسطين - وعلى مدى عقود طويلة!!
    ولكن هل كان في ذلك عبرة لواشنطن ومن وراءها؟ هل اعترفوا بمسئوليتهم في هذه المشكلات؟ هل راجعوا سياساتهم تجاه الشعوب الإسلامية، أو اتجهوا إلى ذلك وفكروا في إعطاء الفرصة ليعبد هؤلاء ربهم في بلادهم بأمن ويدعوا إلى الله بصبر وحكمة؟
    إن الإجابة معروفة للعالم كله وأسوأ ما فيها أنهم لم يكتفوا بالتهرب من المسئولية بل ألقوها كلها على عاتق المسلمين وشخصوها في شخص (حكومة الإمارة الإسلامية في أفغانستان = طالبان) وأجلبوا بخيلهم ورجلهم وإعلامهم وحلفائهم لتدميرها ومن ثم الانطلاق إلى غيرها!!
    ومرة أخرى نجد أنفسنا أمام مشكلة أخرى من صنع أمريكا نفسها ونجد ظلماً صارخاً تنتهجه أمريكا وحلفاؤها!!
    فلنتعرف إذن على طالبان وموقفها بعدل في الفقرة التالية: